إذا كانت قاعدة «لا اجتهاد مع وجود نص» قد شطبت ونفت العقل، فإن قاعدة «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» قد شطبت ونفت التاريخ.. هذه القاعدة جعلت النصوص جامدة لا تتفاعل مع الزمن، فقدت بصمته وضاع منها البعد التاريخى الديناميكى، أخذت الألفاظ بعموميتها متجردة من الوقائع التى أحاطت بها والعوامل التى أفرزتها، يقول «الواحدى» فى كتابه «أسباب النزول» إن غرضه من تأليف الكتاب هو «إبانة ما أنزل فيه من الأسباب، إذ هى أو فيما يجب الوقوف عليها وأولى ما تعرف العناية إليها لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها». التاريخ هو المعمل الذى تتفاعل فيه النصوص مع مصالح البشر وسلوكهم ورغباتهم، والقرآن ليس ألواحاً مسبقة التجهيز مصمتة صامتة نزلت على الرسول، ولكنه نص متفاعل مع الواقع، يرد على أسئلة، ويندمج مع أسباب نزول، وتتدرج أحكامه طبقاً لظروف، وسلب روح التاريخ وأسباب النزول منه تجعله مجرد مصحف للتبرك، كان الأولى أن ينزل ويخبر به الوحى دفعة واحدة مكتملة، ولكن هذا التدرج المرحلى له دلالة وحكمة ورسالة. الآن.. صدقت نبوءة ابن عباس حين قال: «سيكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن ولا يدرون فيما نزل، فيكون لهم فيه رأى ثم يختلفون فى الآراء ثم يقتتلون فيما اختلفوا فيه»، وقد وضح المستشار العشماوى الخلط الحادث فى أذهان التيار السلفى بين أسباب النزول ومناسبات النزول، فالأسباب هى الظروف الواقعية التى تفاعلت مع النص ليظهر على النحو الذى أصبح به حكماً، أما المناسبة فتعنى أن النص كان معداً سلفاً وأنه كان يتحين الفرصة أو المناسبة ليظهر فيها، هذا الخلط أدى إلى عواقب وخيمة فى الفهم، فبعد فتح مكة وحج النبى على سبيل المثال نزلت الآية «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ..»، وقد أخذ الفكر الأصولى هذه الآية على معنى المناسبات، فاقتطعها عن أسباب نزولها واعتبرها نصاً عاماً فُهم منه أن الدين كمل يوم نزلت الآية فقط، وأن الشريعة قد استوفيت بمقتضى هذا النص، فلا زيادة لمستزيد، وممنوع استخدام العقل، فكل شىء قد تم وضعه والدائرة قد اكتملت، ولكن إذا فسرنا الآية مع الأخذ فى الاعتبار أسباب التنزيل وضح الغموض وزال اللبس لنعرف أن الحج قد أكمل شعائر الدين وليس تفاصيل الدين والحياة اليومية، وليس معناه أبداً كما يروج الأصوليون أن باب الاجتهاد قد أغلق. افتقادنا هذا البعد التاريخى الزمنى فى أسباب التنزيل أدخلنا فى نفق الحاكمية المظلم الذى حفره لنا «المودودى» حين روج لفكرة الحاكمية الإلهية استناداً لآية «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ»، اعتمد عليها منظّرو الجهاد والقاعدة والجماعات كدستور للعنف وتناسوا بدهية أسباب النزول التى جعلتها واقعة قضائية بحتة تتعلق بنزاع اليهود الذين احتكموا إلى الرسول، فالحكم كان قضائياً لفئة معينة وليس سياسياً لدولة وشعب. نزع قشرة التاريخ عن النص هو بمثابة نزع الجلد عن الجسد.. إنها مقدمة لنزع الروح وجفاف الفكر وموت العقل.