سعيد مرزوق يبكى 24 ساعة يومياً ويمتنع عن الكلام ويحجب وجهه بالغطاء عن الزائرين، عندما سمعت هذه الأخبار حزنت على فنان عظيم، وحزنت أيضاً على وطن لا يقدر قيمته، لذلك أقدم سعيد مرزوق لمن لا يعرفه من خلال إعادة نشر مقال كنت قد كتبته عندما كان يمر بمحنة فى دار المنى وهو الآن يعانى نفس المحنة فى مستشفى القوات المسلحة، أهدى إليه هذا المقال قبلة على جبينه الوضاء المشرق واعترافاً بجميله فى تشكيل وجداننا وصناعة سينما راقية مختلفة: ما يقتل الفنان ليس الخنجر ولكنه الإهمال، وما تغتاله ليست الرصاصة ولكنها اللامبالاة والتجاهل، لذلك فهمت سر دموع المخرج الجميل الرائع سعيد مرزوق، شاعر السينما، فى تكريم المهرجان القومى للسينما، كان قد تحمَّل عزلة دار المنى وجلطة المخ وبتر الساق ومضاعفات السكر ولكنه لم يتحمل بُخل السؤال وضنى النسيان وهجران الصحبة، رجل معجون بالفن، يسكنه جنون الإبداع، وهذا ما شاهدته بنفسى عن تجربة شخصية أثناء تحضير فيلمه العبقرى «المرأة والساطور»، واهتمامه بالتفاصيل الدقيقة لدرجة أنه أرسل نحاتاً للفنان أبوبكر عزت لأخذ قياسات للرأس والقدمين حتى ينحت بالضبط وبالمقاس الأشلاء والأطراف التى ستقطعها الزوجة من جسد بطل الفيلم، اهتمامه بالتكوين السينمائى وتفاصيل اللوكيشن والصورة وظلالها وأضوائها وملامحها، عاشق للبحر يقول عنه إنه دراما وإن المشهد لو كان متوسطاً أو ناقصاً فان البحر يكمله ويرفع درجة امتيازه!، علَّم نفسه بنفسه أبجديات السينما، دخل استوديو مصر إلى مسام وجدانه بحكم قرب السكن والجيرة، شاهد سيسيل دى ميل هناك فى طفولته فأدرك معنى كلمة مخرج، وكما قيل ولد التليفزيون عملاقاً، فقد ولد سعيد مرزوق فيه عملاقاً أيضاً، لكنه اتجه إلى السينما معشوقته المراوغة الفاتنة، لا يمكن أن أنسى مشاهدتى الأولى لفيلمه الأسطورة «زوجتى والكلب» بعد عرضه الأول بسنوات، عرفت كيف تكتب قصيدة بالكاميرا، وكيف تعبر بالصمت والسكون، وكيف تكون نظرة العين ملحمة، وإطراقة الرأس حكاية، كيف ينسج صمت الفنار وغموضه وصفير الريح خيوط الشك القاتل؟، فحيح الغريزة، تواطؤ الخرس، أرجو من كل من لم يشاهد هذا الفيلم أن يشاهده على النت ولن يندم، ومثله فيلم «الخوف» الذى سقط للأسف من ذاكرة الفضائيات ولا يعرض إلا نادراً، شاهد فيه كيف يتغلغل الخوف فى نظرات الممثلين وإيقاع المشهد وحركة الكاميرا وركام العمارة التى تحت الإنشاء وحارسها الذى ليس بحارس ولكنه إشعاع خوف متحرك ومانشيتات الصحف الروتينية الباردة حتى الجنس كان الخوف يسكن رعشته الحميمة!!، أتذكر سعيد مرزوق فى «أريد حلاً»، الذى غير قانوناً وانتصر للمرأة المقهورة، أتذكره فى «المذنبون»، الذى أثار ضجة غير مسبوقة عند عرضه وأجازه السادات بنفسه، عندما شرح «مرزوق» المجتمع المصرى ومناطق فساده وروائح عفنه فى فيلم كان صوتاً وسوطاً على ظهورنا جميعاً لنفيق، سعيد مرزوق كانت السياسة دائماً عنده ليست مباشرة ولا زاعقة وهى فى خلفية المشهد، المهم الفن، المهم الصورة، المهم أن تعيش السينما وتموت الشعارات ويموت الضجيج والصراخ. شكراً سعيد مرزوق على كل لحظة فن جميلة عشناها معك على هذه الشاشة السحرية وفى هذه القاعة المظلمة التى جعلتها بفنك تشع نوراً.