انتحار العالم اليابانى يوشوكى ساساى فى معمله يوم الثلاثاء الماضى يحمل رسائل ودلالات فى منتهى الأهمية، أهم هذه الرسائل أن احترام المنهج العلمى هو مفتاح التقدم، وأن صرامة هذا المنهج وانضباطه وكتالوجه المرسوم بدقة هو ما يمنح هذا المنهج قوته واستمراريته وبصماته على كل مظاهر التحضر والمدنية الحديثة، هذا الرجل الذى شنق نفسه نتيجة إحساسه بالذنب لأنه لم يراجع جيداً البحث الذى نشرته رئيسة الفريق العلمى هاروكو أوبوكاتا فى مجلة «نيتشر»!!، تخيلوا الرجل مسئوليته فقط أنه لم يراجع جيداً البحث ويراقبه فى صورته النهائية، وليس أنه هو الذى أجرى البحث، ولكن ضميره العلمى لم يتحمل هذا الخطأ، طبعاً أنا لن أتكلم عن ناس هنا غير مؤهلين أساساً ويخترعون أجهزة علاج، بل ويفتحون عيادات، بل ويكرمون، وبالطبع لا ينتحرون، فالضمير عندهم قد مات، والجلد قد صار سميكاً كجلد التماسيح!، هذا الرجل لم يشفع له عمله فى أعظم معهد علمى فى العالم، وهو معهد ريكن البحثى، الذى تصل ميزانيته إلى 750 مليون دولار، والذى حصل منه عالمان على جائزة نوبل، والذى صنع أسرع سوبر كمبيوتر فى العالم، لم يشفع له بحثه المذهل الذى أجراه على الفئران، والذى طور وحفز فيه الخلايا الجذعية لتكوين شبكية تمنح أملاً لمرضى العمى وضمور العصب البصرى، بالرغم من كل هذه الإنجازات، وبالرغم من ابتسامات التسامح التى هى سمة يابانية أصيلة، فإن المجتمع اليابانى شديد القسوة مع أى تجاوز أو خطأ علمى ويجرس صاحبه ويفضحه، وهو ما جعل يوشوكى تحت ضغط عصبى هائل أدى به إلى الانتحار، باختصار أرجو ألا يكون مخلاً وبعيداً عن التعقيد، البحث كان عن إمكانية أن تنبت الخلايا الجذعية أعضاء جديدة من خلال وضعها فى محلول حامضى خفيف، ولكى يأخذ البحث ختم المشروعية ويحصل على اعتراف الأوساط العلمية تقدم الفريق بقيادة العالمة الشابة هاروكو أوبوكاتا بالبحث إلى أقوى مجلة علمية فى العالم وهى مجلة «نيتشر» التى تمتلك أقوى لجنة محكمة وأكثرها صرامة وقسوة فى الحكم على الأبحاث، تم نشر البحث فى يناير من هذا العام وحمل اسم معهد ريكن، ولكن لكى يكون البحث العلمى علمياً بجد المفروض ألا يكون سرياً كما يعتقد البعض، وأن يكون من الممكن إعادة تجربته فى مراكز أخرى والحصول على نفس النتيجة، بدأ البروفيسور لى من هونج كونج إشعال الفتيل، وحاول تكرار التجربة ففشلت وأعلن ذلك فاهتز المجتمع العلمى اليابانى، وبدأ فى سن سكين الذبح والتجريس لفريق البحث، وطالبهم وطالب المعهد بالرد، استغرق الموضوع ستة شهور من الجدل حتى تم فى يوليو سحب الموضوع من مجلة «نيتشر» بعد اعتذار علنى من رئيس معهد ريكن، وهو الحاصل على نوبل، كانت الجريمة أن الصور المرفقة مع البحث كان بعضها مكرراً وتم تقديمها على أنها شىء مختلف، وأن هناك فقرة كانت منقولة من بحث ألمانى سابق تم فى 2005، وأيضاً كانت هناك صورة قدمت على أنها حديثة، وهى من بحث سابق لرئيسة الفريق!!، صارت سمعة المعهد العالمى على المحك، وصار متهماً بالتزوير، وطالب اليابانيون بإصدار أمر بمراجعة كل رسائل دكتوراه جامعة واسيدا، التى تخرجت فيها العالمة أوبوكاتا، إنها باختصار مذبحة علمية لهذه العالمة الشابة التى دخلت المستشفى، والتى تسببت فى انتحار أحد أفراد فريقها، وأرجو منكم الاطلاع على هذا الفيديو لكى تشاهدوا كم الهلع والرعب والانهيار الذى ظهر على ملامحها أثناء مناقشتها فى أخطاء البحث https: //www.youtube.com/watch?v=5DDkOUUb1GA أحس أننى أتكلم عن كوكب آخر، وأرجوكم ألا تقارنوا بين انضباط المجتمع العلمى هناك وفوضى مجتمعنا اللاعلمى هنا حتى لا تصيبكم لوثة عقلية، لا نريد من الكفتجية هنا أن ينتحروا مثل اليابانيين، لكننا نريد فقط أن يكون عندهم بعض الدم، وقليل من الخجل، وفتات من الضمير.