بالأمس كتبت عن تكفير د. نصر أبوزيد على صفحات مجلة الأزهر وكأن عقارب الساعة لا تتحرك، وكأن مكفرى الأمس ما زالوا كاتمين على أنفاسنا حتى هذه اللحظة، وكأن ثوراتنا واحتجاجاتنا وصراخنا طيلة الثلاث سنوات الماضية كان سراباً وجرياً فى المكان، رحل نصر أبوزيد وسكن القبر ولكن سكاكين التكفير ما زالت مصرة على ملاحقته ونبش كفنه وتقطيع جثته وبتر أشلائه فزعاً من دعوته إلى حرية الفكر والبحث وحفاظاً على مصالح يرتعشون من ضياعها واقتناصاً لبيزنس ملأ الجيوب والكروش وأجلسهم على قمة السلطة وهم يرتعدون من أن يتسرب ويتبخر ويتلاشى، وإذا كان نصر أبوزيد قد رحل جسداً بعد أن نفاه قبلها المكفراتية خارج محيط معشوقته مصر فعاش قهر فيروس المنفى قبل أن يموت بفيروس المرض، فإن أفكاره ما زالت حية نابضة قادرة على النبوءة، وها نحن اليوم قد لمسنا صدق نبوءاته يوم أن حذرنا من تجار الدين ولم نسمع ولم نفهم إلى أن اكتوينا بنارهم وما زلنا نكتوى، سأقتبس من تلك الأفكار والكلمات ردوداً على مكفراتية مجلة الأزهر، ولنستمع ونقرأ ما كتبه أبوزيد ولنفتح مسام العقل قبل مقلة العين: ■ هل كان من قبيل المصادفة اللغوية أن ترتد المادتان اللغويتان «كفر» و«فكر» إلى جذور واحدة؟ ليس ذلك منطقياً من منظور علم اللغة، فالفارق فى ترتيب الحروف فى الصيغتين دال على أن «التفكير» حين ينقلب على نفسه، ويخون أدواته، تحل الكاف محل الفاء وتتقدمها، فينقلب التفكير تكفيراً، هنا يفقد خصائصه السابقة كما فقدت الكلمة خصائصها الصوتية عن طريق التقديم والتأخير ويتحول إلى جهالة عمياء لا همّ لها إلا القتل، ولا فارق أن يكون القتل بالكلام أو بالسلاح ما دام الجهل متجذراً فى بنية العقل فى الحالتين. ■ السؤال الذى يُثار عادة من جانب بعض المدافعين عن «سلطة النصوص» هو: أليس هناك من سبيل لإبقاء العقل إلا برفض النصوص؟ وهو سؤال ماكر خبيث لأنه لا أحد يرفض النصوص، بل الرفض موجه إلى «سلطة النصوص» وهى السلطة المُضفاة على النصوص من جانب أتباع «النقل»، والحقيقة أنه ليس هناك تصادم بين «العقل» و«النص» لسبب بديهى وبسيط، هو أن «العقل» هو الأداة الوحيدة الممكنة، والفعالية الإنسانية التى لا فعالية سواها، لفهم النص وشرحه وتفسيره. ولدينا هؤلاء المدافعون عن «النقل» بتشويه «العقل» والتقليل من شأنه. إن السؤال لا يتعلق بقبول النص ولا برفضه، بل هو كيف يتلقى الإنسان النص ويتفاعل معه؟ لقد قام الإمام على بن أبى طالب فى رده المعروف جداً والمشهور على الخوارج حين قالوا: «لا حكم إلا لله» بتأسيس هذا الوعى الذى نحاول شرحه فقال: «القرآن بين دفتى المصحف لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال». والدلالة الواضحة لهذا المبدأ المهم جداً والخطير، والمُغيّب تماماً فى الخطاب الدينى المعاصر: إن عقل الرجال ومستوى معرفتهم وفهمهم هو الذى يحدد الدلالة ويصوغ المعنى. وهذا كله ينفى وجود «تصادم» بين العقل والنص، وإنما بين العقل وسلطة النصوص؛ وذلك أنه حين تتحول النصوص إلى سلطة مطلقة ومرجعية شاملة بفعل الفكر الدينى الذى حللناه فى كثير من دراساتنا وأبحاثنا، تتضاءل سلطة العقل. وفى تضاؤل سلطة العقل يكمن التخلف الذى نعانيه على جميع المستويات والصعد. فإذا أضفنا إلى ذلك ما سبق قوله فى الفقرة السابقة من أن سلطة العقل هى السلطة الوحيدة التى تُفهَم على أساسها النصوص الدينية، يصبح التقليل من شأن العقل مؤدياً مباشرة إلى إلغاء النصوص. والنصوص فى هذه الحالة تصبح مملوكة ملكية استئثار لبعض العقول التى تمارس هيمنتها باسم النصوص. والحقيقة أن سعى الخطاب الدينى لتكريس سلطة النصوص ولتكريس شموليتها هو فى الواقع تكريس لسلطة عقول أصحابه وممثليه على باقى العقول. وهكذا تتكرس شمولية تأويلاتهم واجتهاداتهم، فيصبح الخلاف معها كفراً وإلحاداً وهرطقة وهى الصفات التى أُلصِقَت بكل اجتهادات الباحث. ■ لا بد من التمييز والفصل بين «الدين» والفكر الدينى، فالدين هو مجموعة النصوص المقدسة الثابتة تاريخياً، فى حين أن الفكر الدينى هو الاجتهادات البشرية لفهم تلك النصوص وتأويلها واستخراج دلالتها، ومن الطبيعى أن تختلف الاجتهادات من عصر إلى عصر، بل ومن الطبيعى أيضاً أن تختلف من بيئة إلى بيئة -واقع اجتماعى تاريخى جغرافى عرقى محدد- إلى بيئة فى إطار بعينه، وأن تتعدد الاجتهادات بالقدر نفسه من مفكر إلى مفكر داخل البيئة المعينة. ■ لدينا مشكلة هى أننا باستمرار خائفون على الإيمان، كأن ما لدينا هو إيمان معلول يحتاج إلى حماية. الإيمان لا يحتاج إلى حماية لأنه الاقتناع.